مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_مقالات_سياسية_عبد_الستار_الراوي_العقل_السياسي_الإيراني_المعاصر_الحلقة_الثالثة
(منطق الفكر ومنهج العمل)
تسعى حاكمية الفقيه إلى تثبيت النظام الإلهي في الأرض، وبسط العدالة بين الناس، وإنقاذ المستضعفين في العالم من شرور الطغاة وظلامة المستكبرين!!
هكذا وصف الإمام الخميني مشروعه السياسي، وبهذا المنطق ’’الأممي‘‘ يواصل مُنَظِّروا الولاية الدينية نداءاتهم، فيدعون العالمين: أهل المشرق وسواد الغرب، إلى إقامة ’’الجنة الإيرانية‘‘ على جغرافية الأرض الخضراء من إندونيسيا إلى الدار البيضاء، وهو شعار الثورة وسلاحها العتيد الذي تلوح به طهران من حين لحين .
هذا هو مشروع الإمام الخميني، الذي يسعى إلى إخضاع الكون كله للفقيه المرشد، بوصفه حاكما إلهيا، ونائبا لإمام الزمان الغائب، وجامعا للكمالات الإلهية، فولايته العالمية، التي يبشر المسلمين بدخول جنتها، وعلي يد السيد علي خامنئي ولاية معصومة، تتمسك بمبدأ الوصاية الكونية على جميع المسلمين السمع والطاعة لأمر المرشد الأعلى أينما كانوا، مكانا وزمانا. فالاعتقاد بالولاية من تمام الإيمان. ومن يخرج عليها، أو يعارضها، يعد مُرتدا عن الدين القويم .
وقد جرى تأكيد مطلقات الولاية وقداستها الإلهية، أثناء الحراك السياسي 2009 الذي شهدته العاصمة والمدن الإيرانية الأخرى، تحت عنوان (الثورة الخضراء) فقد حكم على المتظاهرين بالكفر والردة والهرطقة، لتطاولهم على المقام الإلهي للمرشد المعظم ، حيث يحرم على كل مسلم معارضة الفقيه القائد .
فليس ثمة حقوق لمواطني الولاية، غير واجبات تنفذ، وأوامر تطاع، ومصير معلوم بالرجم حتى الموت، لكل من يملك رأيا مخالفا أو ينشد أغنية، أو يحمل كتابا.
وليس ثمة من يؤمن أو يعتقد أن حماية تجربة شخصية مثل ’’ولاية الفقيه‘‘ تجيز منع حرية التعبير عن المعتقدات الدينية والسياسية الأخرى.
فالإسلام، لا ’’ولاية الفقيه‘‘ يتعزز بقوة واحدة فقط هي ’’العلم‘‘ ومنح ’’حرية الفكر‘‘ للآراء المعارضة ومواجهتها بالحوار وبالمنطق العقلاني، وبالفهم الصحيح للشريعة ومقاصدها الأساسية. ولو كان المسلمون في صدر الإسلام يذبحون كل مخالف لهم لما كان لغيرهم وجود بين المسلمين اليوم.
وقد برهنت السنوات الأربع والثلاثون الفائتة من عمر التجربة الثيوقراطية؛ على أن ’’ولاية الفقيه‘‘ خلافا لما روّجته الإعلاميات الإيرانية، أو لما اعتقده مريدوها، أو أملوا في أيامها الأولى، ليست أكثر من زهرة نبات الخروع، تنمو وتذبل وتسقط أوراقها واحدة إثر أخرى، إنها في كل الأحوال، مجرد ثورة من المراسيم والطقوس والنداءات التعبوية الصاخبة.
فهي التجربة التي حاولت فرض نموذجها الأيديولوجي على الوطن العربي، عن طريق تصدير الثورة المسلحة؛ فدشنت أيامها الأولى بالحرب مع العراق، وعادت عام 2003 مرة أخرى بذات المقاصد والغايات لتجعل من بعض الأقطار العربية قواعد لتصدير ثورتها كما في لبنان والعراق وسورية، لتنطلق منها لتنفيذ مشروعها السياسي ضد أمن وسلامة الخليج العربي، بحثًا عن ’’مجال حيوي‘‘ لتوسيع رقعة ’’ولايتها السياسية‘‘. في ذات الوقت الذي توجه سخطها العسكري المحموم ضد الشعوب الإيرانية وقواها الوطنية والقومية وتستمر في قتل الثوار والشعراء والأطفال..
ولاية الفقيه: تنبثق عن تصور ميتافيزيائي كلي يرى: بأن من حق الفقيه الإيراني أن يتمتع بـ (ولاية) عامة تخضع لها كل الموجودات الثابتة والمتحركة على سطح الأرض. وسلطة مطلقة على جميع البلاد والعباد. باعتباره ’’الوصي‘‘ و’’القائم‘‘ على شؤون المسلمين الذي ادخرته العناية الإلهية في غيبة إمام الزمان.
وقد أكد الدستور الإيراني في مادته الثانية هذه الوصاية، فنص على ’’ولاية الأمر والأمّة لفقيه‘‘.
إن هذا التصور الكلي لدور الفقيه وصلاحياته العامة روحيّا ودنيويّا، يجعله: حجة مطلقة، ومصدر السلطات، نائبا لله، والوصي الأوحد على الإسلام والمسلمين، حاكما متألها، ناطقا باسم السماء، يدعي لآرائه: ’’العصمة‘‘، ولاجتهاداته: ’’اليقين‘‘. ولأحكامه: ’’الكمال‘‘. ولتقديراته: ’’الإطلاق والضرورة‘‘.
وبموجب المواد (٥٧، ١٠٧، ١١٢) من الدستور أيضا: فإنه المصدر الأعلى للسلطات الثلاث: التشريعية، التنفيذية، القضائية، وهو القائد الأعلى للجيش والمسؤول الأوحد عن تعيين الضباط وعزلهم، وهو القادر على إلغاء السلطة وتغيير كل قرار أو حكم قضائي، أو تقديم من يشاء للمحاكمة، باعتبار أن الأحكام تابعة له، وليس العكس، فهو فوق الأحكام والقانون.
إزاء ذلك يصبح ’’الفقيه‘‘ الآمر الناهي في أي ’’موقف‘‘ أو ’’قرار‘‘، أو ’’رأي‘‘ وعلى مختلف الأصعدة: السياسة، والاقتصادية، والاجتماعية، والدينية. فهو إمام الزمان، وأمام الدين معا، وتنتهي بين يديه كل الحدود، وببركاته تنهض الحياة.
وتقدم هذه (الولاية المطلقة) التي لا حدود لها ولا نهاية على طبق اللاهوت السياسي بقصد تكريس مصالح الطبقة الثيوقراطية، وتوطيد سلطاتها، وقبل كل شيء إحكام قبضتها على المجتمع ’’لبث الهلع في قلوب الناس‘‘.
فهذه النظرية بكل فصولها النظرية وتدبيراتها العملية لم تتخطَ دائرة التأويلات السياسية، أراد كاتبها، إقامة دولة مترامية الأطراف ذات طابع كوني، بدعاوى ’’قدسية الفقيه‘‘، ’’الحاكم العادل‘‘ الذي أراد أن يرى الإيرانيون فيه (صورة الله على الأرض).
ومن أجل هذه الغاية، ابتدع حملة اللاهوت السياسي، تبريرا إضافيّا يضمن لهم سطوتهم على رقاب مسلمي إيران، فزعموا أن ’’الولاية‘‘ حجة ربانية، وأحكامها نافذة لا تقبل النقض أو المراجعة.
فالولاية، مكتفية بذاتها، مبررة لوجودها، اقتضت حكمة السماء قيامها، ليست بحاجة إلى أحد سوى مرشدها الأول، الوكيل عن الله في الأرض لا عن جماهير المسلمين، إن هذا التصور الشامل لـ (الحاكمية المتألهة) يقضي بالضرورة إلى (كُلِيّة مطلقة) تنحل معها كافة الجزئيات والشذرات والتفاصيل، لتخضع بموجبه كل الموجودات الكونية، لإرادة الفقيه الإيراني، مما ينتج عنه، جبرية صارمة، يتحول فيها الإنسان إلى رقم رياضي فارغ (صفر على جهة الشمال)، فالقهر الجبري، ينفي حرية الرأي ويمنع الاعتراف بالآخرين. ويلغي كافة أشكال الحرية الإنسانية.
وإزاء ذلك فولاية الفقيه – في نصوصها الفكرية وتجربتها التطبيقية – ليست إلا عملية سياسية، الهدف منها إقرار (الحق المقدس) بتمكين رجل الدين من الانفراد بالسلطة، والهيمنة على الحكم، عن طريق إعادة تشكيل نظرية (التفويض الإلهي) التي تمنح المرشد الإيراني (الحق المقدس) الذي يترتب عليه، تحطيم مبدأ المساءلة بين الحاكم والشعوب، ومن ثم إكفار كل من لا يؤمن بولاية الفقيه وبقراراتها المقدسة.
وفي مقابل صفة (القداسة) التي أضفيت على التجربة الإيرانية وعلى مرشدها، فقد تم إقصاء ’’النسبية‘‘و’’العقلانية‘‘ و’’العلمية‘‘ و’’الديمقراطية‘‘، فيما أيقظت ’’الولاية‘‘ شعارات الإثارة والتهييج والنداءات الطائفية الذميمة، واعتبرت نفسها التجربة الوحيدة المعبرة عن روح الإسلام، وما عداها من تجارب الأمم والشعوب الأخرى، تجارب كافرة ودخيلة!! في ذات الوقت الذي تشهر فيه ’’الولاية‘‘ سلاحها العنصري بوجه كل الشعوب غير الإيرانية (غير الفارسية)، بهدف استلاب هويتها القومية وسحق تراثها الحضاري. فضلا عن امتلاء قادتها بالأحلام التوسعية السوداء تحت شعار ’’الحرب المقدسة‘‘ لإقامة ’’دولة العدل العالمية‘‘ التي تبتدئ أولى خطواتها صوب بغداد، فيكون العراق والخليج العربي واحدا من أقاليمها الأساسية بزعم: ’’الأقربون أولى بالمعروف‘‘!!
فكانت الحرب العدوانية واحدة من احتجاجات الثيوقراطية ضد العراق تعبيرا عن ذاتها المضطربة والعاجزة عن إقامة علاقة سوية مع الأمة العربية، فلم يعد بوسعها إلا أن تجتذب تقاليد الدم والموت والعدم من القرون العتيقة فيصبح ’’الغزو المسلح‘‘ و’’العدوان المتعمد‘‘ سلاحا أيديولوجيّا لشق الطريق أمام الحركة الدينية – السياسية ومنظماتها الرجعية بقصد تنظيم صفوفها وتعبئة قواها الفاشية ضد الأمن الوطني للعراق والأمة العربية، وضد عموم الشعوب الإسلامية الأخرى تحت دعاوى مضللة:
إنقاذ المستضعفين، و’’تصدير الثورة‘‘!!
وإذ تفعل الخمينية ذلك كله، فإنها تصر على مغادرة الزمان التاريخي وتقودها خطاها المثقلة بأوهام الدولة الكونية، إلى الأعماق الواطئة فتقذف نفسها وتجربتها خارج العصر والتاريخ.
إن إرادة الثيوقراطية وذرائعها وأهدافها في: إشعال الحروب، زرع الموت، تشويه مقاصد الشريعة، تحطيم المحبة في القلوب، إطفاء أنوار العقل .
لا يمكن لهذه الإرادة المغامرة إلا أن تكون إرادة شريرة مناهضة عن عمد وإصرار لكل فضائل الإسلام وأخلاقيات الأمم، تقف بالضد تماما من الإرادة العامة، إرادة الشعوب، وقوانين الحياة والحرية والمستقبل.
فالإرادة العامة هي مشيئة الحقيقة الدائمة، إجماعها لم يضلل أحدا في الماضي، ولن يضلل أحدا اليوم وفي المستقبل، لأنها وحدها القادرة على حكم العقل، واستيعاب فقه الدين وقوانين العلم، وشروط الحياة، وحركة التأريخ.
لذلك فإن “الخمينية” التي لم تعد تصغي إلا لانفعالات وجدانها السياسي الهابط، ومعتقداتها الفظة لا يمكن أن نضعها في النهاية إلا في خانة أعداء الجنس البشري، وفي دائرة الزراية الدائمة، واللعنة الأبدية التي يستحقها كل من يحاول أن يقفز فوق أماني الشعوب ويسحق حقوقها الثابتة، ويحرف عقيدتها، ويلقي بجحيم الحرب فتيانها وأطفالها.
وليس لمثل هذه الظاهرة ’’الرثة‘‘ من فرصة أمام المستقبل وقوانين التاريخ إلا ضرورة حتمية واحدة، يفرضها مبدأ ’’تراكم الظلم‘‘. فتحت قوقعة الدكتاتورية المؤلهة وفي ظل إرهابيتها. وحربها العدوانية، تتشكل المقاومة الثورية التي تنمو نضالاتها في إيران كل يوم، وهي لن تقبل الأغلال الخمينية إلى ما لا نهاية، وسوف تصل مهماتها إلى التغيير الحتمي طلبا للحرية، والسلام، وتحقيقا للعدالة المفتقدة، وإقرار مبدأ حسن الجوار والتعايش السلمي مع الأمم.
إن الإنسان العربي الذي يناضل من أجل ازدهار العقل والحرية، ويؤمن بأن الإسلام في جوهره يدعو إلى فضائل الحكمة والتدبر والعدالة، ومن أجل ترسيخ المحبة والسلم بين الأمم والشعوب، يؤمن أيضا بأن ’’ولاية الفقيه‘‘، نظرية دينية؛ قد تصلح لحكم إيران، لكنها لاتملك فرض نموذجها على الشعوب الأخرى .
إن ولاية الفقيه بمطلقاتها الثيوقراطية اللاتاريخية تعد في نظر القوى الوطنية الإيرانية ظاهرة طارئة؛ على الحياة الإنسانية وعلى عصرنا، تريد أن تعود بالإسلام والمسلمين إلى عالم ما تحت الأرض والضوء والحياة، عالم الجهل والظلمات وأحجية السيمياء، لا يمكن لمثل هذه الظاهرة المدججة بالسلاح والأساطير، لا يمكن لها إلا أن تتهاوى أمام العقل والحكمة والسلام.