
مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_تحليل_سياسي_جوليا_نيومان_ما_هي_تداعيات_مذكرة_الاعتقال_الفرنسية_بحق_بشار الأسد_على_ملف_التطبيع؟
تمثل مذكرة الاعتقال الدولية الصادرة عن فرنسا بحق بشار الأسد بتهمة التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية علامة فارقة في تاريخ النزاع السوري، حيث تبرز لأول مرة دعوة للقبض على رئيس دولة لا يزال شاغلاً لمنصبه. تأتي هذه الخطوة في وقت تشتد فيه مساعي التطبيع الإقليمي مع دمشق، مما يثير تساؤلات حادة حول موقف الدول من الانتهاكات المنسوبة للأرجاس الأسد.
فبينما تسعى سورية لاستعادة روابطها الدبلوماسية مع الدول العربية وتحسين صورتها في الساحة الدولية، تضع مذكرة الاعتقال هذه عائقًا كبيرًا أمام جهودها. في هذا السياق، يسعى المقال إلى تحليل تأثير هذه المذكرة على سياسات التطبيع المحتملة مع الأسد، وما يمكن أن تعنيه في ظل تصاعد الجهود الإقليمية لاستعادة الاستقرار والسلام.
مذكرة اعتقال فرنسية ضد بشار الأسد: سابقة تاريخية في الصراع السوري
فرانكفورت – تُمثل مذكرة الاعتقال الدولية الصادرة عن فرنسا بحق بشار الأسد بتهمة التواطؤ بجرائم ضد الإنسانية سابقة تاريخية، كونها المرة الأولى التي تطالب سلطات بلدٍ آخر برئيس دولة ما زال شاغلاً منصبه. ولكن ما تداعيات هذه الخطوة القانونية على مساعي التطبيع الإقليمية مع دمشق، التي تبدو أنها تسير على قدمٍ وساق؟
في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر، أصدر قضاة التحقيق الجنائي الفرنسيون مذكرات توقيف بحق بشار الأسد ومسؤولين آخرين رفيعي المستوى على خلفية استخدام الأسلحة الكيميائية المحظورة في مدينة دوما ومناطق أخرى في الغوطة الشرقية في آب / أغسطس 2013م.
تداعيات اعتقال الأسد على مساعي التطبيع الإقليمي
طالت المذكرات الإضافية ماهر الأسد، شقيق بشار، قائد الفرقة الرابعة للجيش السوري، والعميد غسان عباس، مدير الفرع 450 التابع لمركز الدراسات والبحوث العلمية السورية، والعميد بسام الحسن، مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الاستراتيجية وضابط الاتصال بين القصر الرئاسي ومركز البحوث العلمية، وحدة تقع في صلب برنامج الأسلحة الكيميائية في سورية.
أجرت الوحدة المتخصصة بجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية في محكمة باريس القضائية تحقيقاً استمر لقرابة ثلاثة أعوام في الهجومين الكيميائيين استناداً إلى شكوى رفعها المركز لسوري للإعلام وحرية التعبير (SCM) والضحايا السوريين في آذار / مارس 2021م.
’’جُمِعت عشرات الشهادات من ضحايا وشهود على الهجمات وخبراء‘‘ كما قال لـ’’سورية على طول‘‘، طارق حوكان، مدير مشروع التقاضي الاستراتيجي في المركز السوري للإعلام وحرية التعبير.
أبعاد المذكرة: قانونية وسياسية في التعامل مع الجرائم ضد الإنسانية
’’صدرت مذكرات الاعتقال هذه بغرض تنفيذها‘‘، وفقاً لحوكان، ’’لكن على المستوى العملي، فالأمر مختلف إلى حدٍ ما، إذ إنَّ هناك حسابات سياسية واعتبارات قانونية سيؤخذ بها… وأقصد هنا الاتفاقيات التي تربط فرنسا مع بقية الدول بخصوص تسليم المجرمين‘‘.
ماذا تعني مُذكرة الاعتقال هذه؟
أُسنِدت دعوى 2021م بـ”مئات الأدلة الوثائقية‘‘، بما في ذلك ’’تقارير استخباراتية رُفعت عنها السّريَّة، ومساهمات من منظمات دولية، وتحليل معلومات مفتوحة المصدر، بالإضافة إلى صور ومقاطع فيديو تشير إلى مسؤولية الحكومة السورية في تنفيذ هذه الهجمات‘‘، وفقاً لحوكان. كما شهد أمام محكمة باريس العديد من الضحايا، بما في ذلك أطباء كانوا موجودين في أعقاب الهجمات هناك.
دعم تقديم طلب الشكوى محامون من مبادرة عدالة المجتمع المفتوح والأرشيف السوري إلى جانب ’’مدافعون عن الحقوق المدنية“، وانضموا جميعاً إلى القضية بصفتهم أطراف مدنية، إلى جانب أعضاء من رابطة ضحايا الأسلحة الكيميائية.
يُظهر البحث الذي أجرته مبادرة عدالة المجتمع المفتوح والأرشيف السوري عن دور الدولة السورية في الهجمات الكيميائية 2013م، سلسلة القيادات العسكرية المسؤولة وكيفية تنظيم دمشق للهجمات باستخدام السارين، وهو غاز محظور يؤثر على عمل الجهاز العصبي، يعتبر استخدامه جريمة حرب.
في الخامس من آب / أغسطس 2013م، أسفر الهجوم بالأسلحة الكيميائية على مدينة دوما بريف دمشق، عن إصابة أكثر من 400 شخص، بينهم نساء وأطفال، بحسب الأرشيف السوري، وكان هذا أكبر هجوم بالأسلحة الكيميائية في سورية آنذاك.
وبعد مُضي أكثر من أسبوعين، في 21 آب / أغسطس، أفضى هجوم آخر على مناطق في الغوطتين الشرقية والغربية، التي كانت تحت سيطرة المعارضة آنذاك، إلى مقتل أكثر من 1400 شخص، بينهم مئات الأطفال، وإصابة الآلاف. وما يزال الناجون يعانون من التأثيرات طويلة الأمد لغاز الأعصاب، أحد أكثر عوامل الحرب الكيميائية المعروفة سميةً.
فرنسا تحت المجهر: كيف تؤثر مذكرة الاعتقال على العلاقات الدولية
خلال فترة التحقيق، خَلُصَ القضاة الفرنسيون إلى أنَّ هناك أدلة كافية تؤكد دور الأسد والمسؤولين الثلاثة الآخرين في الهجمات الكيميائية على الغوطة، تُخوِّلهم إصدار مذكرة بحقهم. ولكن مستقبل القضية يكتنفه الغموض كون مذكرة التوقيف هذه، هي الأولى التي تصدرها محكمة وطنية ضد رئيس دولة في منصبه.
في النظام القضائي الفرنسي، تعني مذكرة الاعتقال أن قاضي التحقيق أمر جهات إنفاذ القانون بالعثور على المشتبه به وتقديمه إلى المحكمة. في حالة وجود مذكرة اعتقال دولية، تتصل الدولة بمنظمة الشرطة الجنائية الدولية (الإنتربول) لإصدار نشرة حمراء تدعو سلطات إنفاذ القانون في المنظمة، التي يبلغ عدد الدول الأعضاء فيها 195، إلى القبض على المشتبه به.
يتولى المكتب المركزي الوطني الفرنسي، مقره باريس، وهو جزء من الشرطة القضائية، مسؤولية إحالة طلبات النشرة الحمراء إلى الإنتربول. ’’ومن المحتمل أنَّ هذا لم يحدث بعد، كما قال ستيف كوستاس، كبير المحامين الإداريين في مبادرة عدالة المجتمع المفتوح، مستدركاً: لكننا لم نتمكن من السؤال عن هذا الأمر‘‘.
إن وجود مذكرة اعتقال دولية لا يعني بالضرورة أنَّ الدول الأعضاء في الإنتربول ستمتثل إلى اعتقال الشخص المعني بمجرد إصدار النشرة الحمراء. تطبِّق الدول الأعضاء قوانينها الخاصة للبت فيما إذا كانت ستنفذ الاعتقال أم لا. ومع ذلك، ستخضع مذكرة الاعتقال الفرنسية هذه لأول اختبارٍ لها قريباً.
الأسد مدعو لحضور مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي (COP28) 2023م في دبي، الذي سيبدأ 30 تشرين الثاني / نوفمبر. دولة الإمارات، التي تستضيف المؤتمر، موقعة على اتفاقية تسليم المجرمين مع فرنسا ، فهل سيواجه الأسد خطر الاعتقال إذا حضر؟
’’أنا لست ساذجاً حتى أقول أن الأمور ستسير على هذا النحو‘‘، قال كوستاس، مضيفاً: ’’نأمل أن يلتزم الفرنسيون بدورهم (وطلب التعاون من الإمارات)، وأن تدرك الإمارات العربية المتحدة أنه لا ينبغي لها دعوة الأسد للانضمام إلى مؤتمر الأطراف الثامن والعشرين هذا الشهر‘‘، نظراً للاشتباه بدوره في الهجمات الكيميائية 2013م. ومن أجل المٌضي قٌدماً ستدافع منظمته عن سبل تفعيل مذكرات الاعتقال، وفقاً له.
أسد ومستقبل سوريا: بين الاعتقال والتطبيع
بِصرف النظر عن إمكانية اعتقال الأسد أم لا، يمكن أن يُعَقِّد وجود مذكرة الاعتقال أي قرار بخصوص حضوره المؤتمر ويُسهم في إعادة عزله، في وقت تتزايد فيه مساعي التطبيع الإقليمي.
قبل أربعة أيام من إصدار فرنسا مذكرات الاعتقال، كان الأسد في العاصمة السعودية، الرياض، للمشاركة في قمة إسلامية عربية طارئة بشأن حرب إسرائيل الأخيرة على غَزَّةَ. وكانت سورية قد استعادت مقعدها في جامعة الدول العربية في شهر أيار / مايو الماضي بعد تعليق دام نحو 12 عاماً.
تسعى دمشق منذ سنوات للعودة إلى المجال الدبلوماسي. في 2018 م أعادت الإمارات فتح سفارتها في سورية، تلتها سلطنة عمان في 2020م، والبحرين في 2021م. زار وزير الخارجية الأردني دمشق لأول مرة منذ 2011م في شباط / فبراير، بينما أعلنت سورية والسعودية في شهر أيار / مايو الماضي، عزمهما إعادة فتح سفارتيهما بعد قطيعة استمرت قرابة إحدى عشر عاماً.
يعتقد حوكان من المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، أن مذكرة الاعتقال الفرنسية تعيق فعلياً تقدم دمشق في سعيها للتطبيع الإقليمي كنقطة تنطلق منها للتخفيف التدريجي من العزلة الدولية. وتهدف هذه الجهود أيضاً إلى ’’رفع العقوبات من خلال معالجة قضايا مثل مكافحة الإرهاب والتعاون الأمني ومسائل عودة اللاجئين وإعادة الإعمار‘‘، بحسب قوله.
الضغط الدولي على الأسد: مذكرات الاعتقال ونتائجها المحتملة
المحاكمة غيابياً:
إن أحد السيناريوهات القانونية المحتملة لسير القضية الفرنسية ضد الأسد ومسؤولين آخرين، يقوم المستهدفون أو المدعون العامون بالطعن في مذكرات الاعتقال، بحسب ما قالت عايدة سماني، كبيرة المستشارين القانونيين في منظمة المدافعين عن حقوق الإنسان ’’في هذه الحالة، سيتم البدء بإجراءات قانونية حول شرعية مذكرات الاعتقال. لذا فإن سير العملية يعتمد على الطريقة التي تختارها السلطات الفرنسية للمضي قدماً فيها‘‘.
تشير حقيقة إمكانية الطعن في مذكرة الاعتقال إلى مدى اختلاف مذكرة الاعتقال الصادرة عن دولة مقارنة بتلك الصادرة عن محكمة دولية، مثل المحكمة الجنائية الدولية. غير أن سورية ليست طرفاً في المحكمة الجنائية الدولية، وقد عرقلت روسيا والصين حليفتا الأسد مراراً الجهود الرامية في مجلس الأمن لمنح المحكمة الولاية القضائية.
يُذْكر أنّ المحكمة الجنائية الدولية أصدرت مذكرتي اعتقال بحق كل من: الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس السوداني السابق عمر البشير.
وأوضح حوكان أن مذكرات الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية أو دولة ما ’’تختلف في مسألة جوهرية‘‘. أحد الاختلافات أنه ’’في حالة عدم إمكانية تنفيذ مذكرة الاعتقال الصادرة عن القضاء الفرنسي، فمن الممكن محاكمة المتهم غيابياً‘‘، وهو أمر غير ممكن أمام المحكمة الجنائية الدولية.
’’نأمل جميعا أن يتم اعتقال الأسد قريبا‘‘، لكن إذا كان من غير المحتمل أن يغادر سورية حتى لا يكون ’’عُرضة للاعتقال‘‘، فهناك ’’محاكمة غيابية ممكنة في نهاية المطاف في فرنسا‘‘. مثل هذه المحاكمة ’’ستكون خطوة بالغة الأهمية بالنسبة لمئات الآلاف من ضحايا جرائم الأسد‘‘، بحسب كوستاس.
من دوما إلى الغوطة: تفاصيل الهجمات الكيميائية ودلالاتها
وفي الوقت ذاته، ما يزال النضال من أجل العدالة مستمراً في محاكم أخرى. فنفس المنظمات المشاركة في التحقيق الفرنسي قدمت أدلة على الهجمات الكيميائية 2013م، وكذلك هجوم خان شيخون 2017م، إلى المدعين العامين في ألمانيا والسويد، بحسب ما أكدت سماني. وتقوم السلطات في كلا البلدين بالتحقيق.
وأوضحت سماني أن التحقيقات المتعددة الجارية يمكن أن تمكِّن السلطات الوطنية من مواصلة جمع المعلومات ومشاركتها فيما بينها، وربما مع السلطات الفرنسية. وتواصل المنظمات المعنية تحديد الأدلة التي يمكن تضمينها في التحقيقات المتعلقة بالهجمات الكيميائية.
’’يحتاج ضحايا الهجمات الأخرى إلى الوصول إلى العدالة، ومن المهم للمجتمع الدولي أن تتم معاقبة هذه الجرائم‘‘، قال كوستاس، مُضيفاً ’’من غير الواقعي وغير العادل أن نتوقع من دولة فرنسا وحدها أن تتحمل كل هذه المسؤولية على عاتقها‘‘.
____________
رابط التحليل الأصل:
هذا التحليل السياسي يُعَبِّرُ عن رأي كاتبه ولا يُعَبِّرُ بالضرورة عن رأي الموقع.

مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_تحليل_سياسي_جوليا_نيومان_ما_هي_تداعيات_مذكرة_الاعتقال_الفرنسية_بحق_بشار الأسد_على_ملف_التطبيع؟


