الخميس, نوفمبر 6, 2025
spot_img
الرئيسيةتحليل سياسيممر داوود بين الواقعية السياسية، والسياسة الشرعية

ممر داوود بين الواقعية السياسية، والسياسة الشرعية

مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_تحليل_سياسي_أحمد_الحاجي_ممر_داوود_بين_الواقعية_السياسية_والسياسة_الشرعية
أثار “اجتماع باريس” الذي جمع وفدين سوريًا وإسرائيليًا بوساطة أمريكية الكثير من الجدل في الأوساط السياسية والشعبية. ورغم المخاوف التي أُثيرت حول هذا اللقاء، جاء رد دمشق واضحًا وحاسمًا، حيث أكدت على رفضها لأي ممرات إنسانية عابرة للحدود، مشددة على سيادتها المطلقة في إدارة المساعدات.

هذا الموقف يعكس صراعًا أكبر من مجرد حوار دبلوماسي، فهو يتناول قضايا السيادة الوطنية والمصالح الإستراتيجية. يتناول هذا المقال القراءة المتعمقة للموقف السوري في ضوء الواقعية السياسية والسياسة الشرعية، ويسلط الضوء على التحديات التي تواجه الفئة المؤمنة في سياق التوازن بين الحفاظ على الثوابت الوطنية والتحرك في عالم معقد.

اجتماع باريس والواقعية السياسية

أثار ما عُرف بـ’’اجتماع باريس‘‘ جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والشعبية، إذ ضمّ وفداً سورياً وآخر إسرائيلياً بوساطة أمريكية. ورغم ما أُثير من مخاوف حول هذا اللقاء، فقد جاء البيان الرسمي الصادر عن دمشق حاسماً؛ لا ممرات إنسانية عابرة للحدود، والمساعدات تمرّ حصراً عَبْرَ مؤسسات الدولة السورية وتحت إشرافها الكامل. وبهذا الإعلان انتهى عملياً ما عُرف بـ’’مشروع ممر داوود‘‘، وهو مشروع كان يُسوَّق تحت عنوان ’’إنساني‘‘، لكنه في الحقيقة كان أشبه بـ’’حصان طروادة‘‘ يُراد به شرعنة وجود العدو في الجنوب السوري وفتح ثغرات استراتيجية.

وهنا يبرز سؤالان محوريان: كيف يُقرأ الموقف السوري في ضوء الواقعية السياسية؟ وكيف يُوزن في ميزان السياسة الشرعية؟

الواقعية السياسية وفهم الفخ:

تنطلق الواقعية السياسية من مبدأ أنّ الدول تتحرك وفق حسابات ميزان القوّة والمصلحة، لا بدوافع المثاليات. ومن هذا المنطلق، يمكن قراءة اجتماع باريس بوصفه اختباراً سياسياً أكثر من كونه مساراً تفاوضياً. فقد أراد الأمريكيون والإسرائيليون استكشاف الموقف السوري وفتح ثغرة باسم ’’الممر الإنساني‘‘، بينما كان الهدف الأعمق شرعنة وجود الكيان في السويداء والجولان. لكنّ الرد السوري أتى منسجماً مع مقتضيات السيادة الوطنية؛ رفضٌ مطلقٌ للممر، وإغلاق الباب أمام أي مسار خارج الشرعية الوطنية، وتثبيت قاعدة أنّ السيادة لا تُجزّأ.

وهنا يصدق ما قاله ابن تيمية: ’’فليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين‘‘(.([1] فقد قبلت دمشق بالجلوس على الطاولة لكشف أوراق الخصم، ثم ردّت من موقعها السيادي بضربة سياسية أسقطت المشروع قبل أن يُولد.

السياسة الشرعية ومفهوم التدافع:

من زاوية السياسة الشرعية، تقوم إدارة الصراع على قاعدة ’’تحقيق المصالح ودرء المفاسد دون تفريط في الأصول والثوابت‘‘. يقول العز بن عبد السلام: ’’فإذا اجتمعت مصالح ومفاسد، فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد جميعاً، وجب ذلك. وإن تعذّر الدرء والتحصيل، فإن غلبت المفاسد تُدرأ، وإن غلبت المصالح تُجلب‘‘.([2])وعليه، كان الموقف السوري درءًا لمفسدة عظيمة وهي: (شرعنة وجود الكيان)، وتحقيقاً لمصلحة كبرى (الحفاظ على السيادة).

الثابت والمُتغير في إدارة الصراع:

السياسة الشرعية تفرق بين الثوابت والمتغيرات:

1-الثابت: أن العدو الصهيوني عدوّ عقدي واستراتيجي لا يجوز الركون إليه، كما قال تعالى: ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ [هود: 113]. والموقف هو بقاء العداء العقدي والسياسي مع الكيان العازل، ورفض أي اعتراف أو تطبيع.

2-المتغير: أدوات إدارة الصراع من مفاوضة تكتيكية أو مناورة سياسية. أو كشف أوراق الخصم. وابن تيمية أوضح هذا المعنى بقوله :’’يجوز عقد الصُّلح مع الكفار إذا كان فيه مصلحة للمسلمين، من غير تمكين لهم من شيء من بلاد الإسلام، ولا إقرار لهم على منكر‘‘ .([3])وهذا التمييز يحمي من الوقوع في خطأين استراتيجيين متقابلين:

3-الانجرار وراء العاطفة الشعبية التي قد ترى أي اجتماع مع العدو خيانة مطلقة، ولو كان الهدف منه المناورة.

4–التفريط في الثوابت تحت ذريعة ’’البراغماتية‘‘، وهو ما قد يفضي إلى استسلام وتنازل.

فالسياسة الشرعية تضبط الواقعية، بحيث لا تتحول إلى تبرير للتنازلات، ولا تُترك للعاطفة المنفلتة التي تُفقد الحصافة السياسية. ومن هنا نفهم أن الاجتماع نفسه لا يُعدّ خيانة، ما دام لم يفضِ إلى اعتراف أو توقيع، بل كان وسيلة لإسقاط مشروع خطير على الأرض.

الفئة المؤمنة وخطأ العزلة:

رغم صوابية الموقف الرسمي، تبقى خطورة أخرى خذلان الفئة المؤمنة المحتسبة التي ظلت وحيدة في ميادين التدافع. هذه الفئة هي عماد الأمة وسياجها، وإضعافها أو تركها معزولة خطأ استراتيجي. يقول الماوردي: ’’إذا قام قائم بحق الأمة وجب على الإمام أن ينصره ويؤيده، لأنه ذبٌّ عن الدين وحماية للملة‘‘(.([3] فإضعاف هذه الفئة لا يعني فقط خسارة سند عسكري أو شعبي، بل فقدان ركيزة من ركائز التدافع الحضاري.

إذ تضعف روح التدافع، ويتحول الميدان إلى فراغ تستفيد منه القوى المعادية. والسياسة الشرعية لا تسمح بأن تتحول الواقعية إلى تفريط أو استسلام. بل تضبطها بميزان الشرع. فالسياسة لا تُدار فقط بالدهاء، بل تحتاج إلى سند إيماني صلب، وهو نصرة هذه الفئة المؤمنة المحتسبة قدر المتاح. وبذلك تُحافظ القيادة على المرونة السياسة، وتبقى الفئة المؤمنة ضمن الحسابات الاستراتيجية المهمة، ويستمر التدافع الحضاري كقانون رباني لا يمكن تعطيله.

إنها معادلة دقيقة: فالواقعية ترسم التكتيك، والسياسة الشرعية تحفظ الثوابت، والفئة المؤمنة تبقى الحارس الحقيقي لهوية الأمة كلها.

___________

أ.أحمد الحاجي: كاتب وباحث في السياسية الشرعية.

هذا التحليل السياسي يُعَبِّرُ عن رأي كاتبه ولا يُعَبِّرُ بالضرورة عن رأي الموقع.


[1]مجموع الفتاوى، ج11، ص302.

[2] قواعد الأحكام، ج1، ص97

[3]مجموع الفتاوى، ج28، ص242.

[3]– الأحكام السلطانية، ص41.

مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_تحليل_سياسي_أحمد_الحاجي_ممر_داوود_بين_الواقعية_السياسية_والسياسة_الشرعية

مقالات ذات صلة